Featured Video

الجمعة، 7 مارس 2014

مقصد السكينة في الأسرة

ملاحظات حول علوم المقاصد(1)     
                       
اقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى "وأقصد في مشيك" فأفهم منها أن كل حركتي في الحياة لابد لها من قصد محدد.
      
ثم اقرأ قوله تعالى "وعلى الله قصد السبيل" فأدرك أن قصدي في كل حركتي لابد أن أستمده من كتاب ربي وليس الأمر هوى أخترعه لنفسي، ولقد أعطاني هذا الفهم منهجاً أبحث به عن القصد الذي يجب أن نضعه أمامنا ونحن نمشي في حياتنا الدنيا.

       ومن روائع الخلق أن الله أودع في كل مخلوقاته قصداً تتبناه في سعيها في الحياة وهي ملزمة به بحكم خلقتها.

أنظر مثلاً إلى الضوء، فبينما ينتقل الضوء من مكان إلى مكان لابد أن يختار المسار الذي يحقق له أقل وقت، وقد يكون هناك مسار أقل مسافة ولكن أكثر إعاقة فلا يختاره الضوء، هذه الظاهرة تعرف باسم مكتشفها فرمات "Fermat" ويعكف علماء الفيزياء على اكتشاف هذه المقاصد الإلهية لحركة الأشياء، وربما اكتشفوا قصداً جزئياً ثم تبين لهم بعد ذلك قصد كلي يستوعب هذه المقاصد الجزئية ويحتويها.

       وكذلك أمر الدين، فالدين يحدد مقاصد كلية ومقاصد جزئية، مقاصد كليه للسعي في الحياة كلها ومقاصد جزئية لكل المنظومات الحياتية.



اقرأ قوله تعالى:
       "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين" (الجمعة 2).
فالقصد من الدين هو التزكية والعلم والحكمة، والرسول يعرض عليهم آيات الله في الكون وفي النفس وفي المجتمع حتى يُعد المؤمنين لهذه المهام الثلاث – التزكية والعلم والحكمة – والتزكية هي تحرير النفس من الأوساخ والأدران وجعلها في استعداد دائم للعطاء، وهي تفعل ذلك وهي مزودة بمجموعة من العقائد التي تربطها بخالق الكون فلا يكون العطاء لمصلحة "آنية" أنانية وإنما هو عطاء يبتغي وجه الله ورضوانه، ولذلك فتثبيت هذه العقائد في الأفئدة هي أول عمل يقوم به الرسول (ص) حتى تصبح هذه العقائد هي الجدوى الربانية لكل أعمال الإنسان في الحياة الدنيا.
      
والقصد الكلي الثاني هو اقتفاء العلم في كل نواحي الحياة، والله يقول "ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" (الإسراء 36) ، فالنفس المزكاة الحاملة في أعماقها عالم العقائد والقيم التي بشر بها الدين سوف تقف في مسيرتها العلم النافع للإنسان وستخضع سعيها العلمي لعالم قيمها فتعيش في تناغم مع نفسها ومع كونها المحيط بها.
      
والقصد الكلي الثالث هو تعليم الحكمة، والحكمة هي القدرة على فهم كل محدثات الحياة التي تصادف الإنسان في حياته من قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية ثم القدرة على اقتراح الحلول المناسبة التي تأخذ في الحسبان قدرات الناس على التغيير والتدرج بهم من واقع يعيشونه إلى مأمول هو خير لهم من واقعهم. ومن الحكمة أيضاُ أن تسعى العقول المؤمنة العالمة إلى استخراج كل المقاصد الجزئية للمنظومات الحياتية المختلفة من القرآن الكريم، وسوف نضرب الآن بعض الأمثلة لهذه المقاصد التي تتعلق ببعض المنظومات الجزئية في الحياة.

مقاصد جزئية:
1-   مقصد السكينة في الأسرة....
يقوم الاجتماع الإنساني على بنيتين أساسيتين: الأولى هي الأسرة، والثانية هي الأمة، وقد جعل الله هدف النشاط الإنساني في الحياة تحقيق "السكينة الاجتماعية" في هاتين المؤسستين. ففي السكينة الأسرية يقول الله تعالى: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الروم: 21).
وتقوم السكينة الأسرية على الحفاظ على القيم الخالدة التي جاءتنا وحيا، وليست سكينة تقوم على التراضي المؤقت على قيم غير ربانية. وفي الآية الكريمة كلمتان حاكمتان: الخلق والجعل، فشاءت إرادة الله أن يخلق لنا من أنفسنا أزواجا لنسكن إليها، أي نحقق سويّا السكينة التي يأمرنا الله بجعلها هدفا لكل نشاطنا الإنساني، ثم علمنا المولى أن الطريق لتحقيق هذه السكينة يتمثل في أمرين، هما: المودة والرحمة في التعاملات بين الزوجين. فالجعل في هذه الآية هو مشيئة إلهية أو قل هو سنة من سنن الله تعالى.
إن الطريق إلى السكينة يحتاج إلى عمل إنساني في اتجاهين: المودة والرحمة، فالجعل في هذه الآية هو مشيئة إلهية وعمل إنساني، والتوادّ هو أن أجعل نشاطي مع الآخر محاطاً بالحب القاصد وجه الله، حتى في أخص العلاقات بين الزوجين، حيث يتوجهون بها إلى مرضاة الله تعالى، فيثيبهم عليها سكينة وأمنا (وفي بضع أحدكم صدقة...)، والتواد في حدود القدرة، وقد يكون أحد الزوجين أقدر من الآخر، وهنا تدخل الرحمة؛ فالأمر ليس توادّاً فحسب، وإنما يرحم أحدنا الآخر فيما لم يقدر عليه.
وتأكيدا لهذه المعاني انظر إلى قول الله تعالى: "وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى..." (الأحزاب: 33)، ولقد رأى فيها البعض معنى الْزمْنَ البيوت؛ فلا تخرجن منها لغير حاجة مشروعة، ولكن لفظة "قَرْن" و "قِرْن" كلاهما من القرار، وهو السكون الجميل أو السكينة، ومنه أيضا "وَقَرِّي عَيْناً": أَمْرٌ من قرَّت عينه تقِرُّ بالكسر والفتح قُرَّة وقَرَّة وقُرورا، إذا رأت ما كانت متشوقة إليه، مأخوذة من القرار بمعنى الاستقرار، أي السكون الجميل والسكينة. فإن كان هذا الاستقرار وهذه السكينة تستلزم البقاء في البيت فلا مانع، ولكن الآية أشمل من ذلك، والهدف واضح وهو تحقيق السكينة في الخلية الأساسية في جسد الاجتماع الإنساني: الأسرة.

 (1) أ.د سيد دسوقي حسن

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More