القراءة عنوان الحضارة
اقرأ ورَبكَ
الأكَرم[i]
القارئون في العالم
تاريخياً وجغرافياً هم الأكرمون :
إن
أول كلمة في آخر رسالة هي كلمة ( اقرأ ) ، ولم تكن كلمة أخرى من الكلمات الأخلاقية
أو العبادية التقليدية . والعبارة التي بدأ بها إنجيل يوحنا : ( في البدء كان الكلمة
) إشارة إلى أهمية نقل الخبرات بالكلام ، نل العلم بالكلام ، نقل العلم بقراءة
الخط .
إن
النص (
اقرأ وربك الأكرم )
ينال التقديس من المسلمين لأنه كلام الله تعالى ، ولكن هذه القداسة ستزداد وتتعزز
وتتوظف عملياً عندما يرى المسلم هذا النص في آيات الله في الافاق والأنفس .
إن
النص يدل على الأمر بالقراءة ، ويعقب الأمر بأن الرب أكرم ، فصار هنا اجتماع بين
القراءة وكرم الرب ، أي أن القراءة وكرم الرب اقترنا في مكان واحد . وحين ننظر إلى
العالم جغرافياً - أي مكانياً - سنرى هذا الاقتران متلازماً ، أي أن الذين ينالون
كرم الرب وغناه هم القراء أو أكثر الناس قراءة في العالم . ويمكن أن نسوق أمثلة :
المثل
الأول : إن اليونان كانوا أكثر الناس قراءة وكتابة أيام حضارتهم ولا يزالون نتاج
فلاسفتهم وشعرائهم وحكمائهم يشهد على أنهم كانوا هم المنتجين أكثر والمتصلين
بالقراءة في عالمهم اتصالاً أوثق ، وهم الذين نالوا كرم الرب وكرامته بين العالم ،
فقد سيطروا على أكبر رقعة في العالم ، من الهند إلى مصر زمن الاسكندر الذي كان
تلميذاً لارسطوا المسمى بالمعلم الأول .
المثل الثاني :
المسلمون الذين كلما كتب كاتب في الأرض عن تاريخهم لا يقضي عجباً من سرعة ما ملكوا
العالم المعاصر لهم ، انطلقوا من الكلمة (اقرأ) إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس
وأشدهم اتصالاً بالقراءة والكتاب والعلم الذي يطلبونه في كل مكان ومن كل مصدر ،
لقد ناول كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم . ولسنا في حاجة إلى
أن نذكر المسلم بهذا فقد قيل له هذا الكلام كثيراً ، ولكن ربما لم يشعر المسلم
بارتباط هذا الحديث بالتوحيد وارتباط التوحيد بالعلم وارتباط العلم بالقراءة ؛ (
اقرأ وربك الأكرم )
وفي عصرهم لم يكن عند أحد في العالم ما عندهم من العلم والاتصال بوسائله قراءة
وكتابة ومكاتب …
المثل الثالث : إذا
نظرنا حولنا في هذا العصر الذي نعيش فيه نجد أن الذين يتمتعون بخيرات العالم
وينالون الكرم والكرامة هم قراء هذا العصر وأكثرهم صلة بالقراءة وما يتصل بها ،
كما تبينه الإحصاءات التي تعدُّ المؤلفين والكتب والجرائد والمجلات والمكتبات
ونصيب كل فرد من الورق المطبوع ، حتى لقد اضطر توينبي أن يقرر : (إن ارتفاع نسبة
قراء الكلمة المطبوعة هو الأساس الحضاري لتصنيف البلدان في العالم إلى دول متخلفة
أو نامية أو متقدمة ) .
المثل الرابع : إنه
اليابان - هذا العملاق القزم - حيث محيت فيه الأمية منذ القرن التاسع عشر (وإن
نسبة تعليم الفتيات ازدادت في اليابان ،
فقد وصلت نسبة من ينهين الثانوية العامة (95%) .. ويلعب الكتاب دوراً بارزاً في
حياة الفرد الياباني ، فمؤسسات النشر اليابانية تصدر (35 ألف) عنوان جديد سنوياً
تقريباً ، وها يمثل ضعفيّ ما ينشر في الولايات المتحدة الأمريكية ، كما أن اليابان
ثاني أعظم قوة صناعية في العالم)(1) .
إن الإنسان ليتصاغر
أمام من هو أقرأ منه ، سنة الله (هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )
سورة الزمر / 9 ، حسبك من صدق هذا ما عند الناس من نظر إلى العالم أو من يحمل
شهادة أعلى .. إن هذا النظر التقديري يرتفع إلى درجة الخرافة أحياناً .
أجل إن من يقرأ أكثر
ينل أكثر .. إنه قانون الله .. (ليس
بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به )
(النساء /123) وإن الله لا ينظر إلى أقوال الناس وصورهم وأسمائهم ، وإنما من يتبع
سنة الله ينل وعد الله ، (
كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً )
(الإسراء /20) .
وقد يميل بعض الناس
إلى إعطاء الذكاء درجة أسمى من القراءة ، بل إنه لما بدأ الناس يلاحظون إمكان
التدخل في وراثة الصفات الوراثية ، كان أول ما خطر لهم عمل نسخ مكررة من العباقرة
الأذكياء أو نقل مورثات ذكائهم إلى الآخرين . لقد غفل هؤلاء أن الذي يجعل الإنسان
إنساناً ليس فقط ما يضاف إليه قبل أن يخرج من بطن أمه وإنما ما يضاف إليه بعد
خروجه من عالم الأجنة إلى عالم الطفولة والتربية ، وليس الذكاء هو الذي كان ينقص
الأطفال الذين كانوا يولدون من عهد نوح ، فنسبة الذكاء في المواليد الثابتة على
مدى التاريخ ، ولكن غير الثابت هو تهيئة الظروف والبيئة التي تصنع الإنسان .
إن الفرق بين كافة
علمائنا المعاصرين في جميع فروع العلم ، والعلماء الذين عاشوا من قبل ليس في مستوى
الذكاء ، وإنما امتاز العلماء المعاصرون بأن أمامهم خبرات متراكمة أكثر من الأجيال
الماضية حفظت بالكتابة ، واستفيد منها بالقراءة . إن ذكاء الإنسان ليس بذي قيمة
بدون تمثل الخبرات البشرية المتراكمة المحفوظة بواسطة الكتابة المستغلة والمستفاد
منها بالقراءة ، فأرقى الناس إنسانية أكثرهم إحصاء لما حدث في العالم بشكل مصفى
ومركز .
هذا الموضوع هو الذي
يجعل القراءة قبل الذكاء وقبل العبقرية ، وهو الذي جعل القول أو التمثيل يقرب
الحقيقة القائلة بأن المتأخر (الخلف) مثل
القزم الذي يجلس على رقبة العملاق ( السلف ) ، فيشاهد كل ما يشاهده العملاق
، كما يشاهد شيئاً لا يشاهده العملاق . إن القراءة هي التي تقعد الأقزام على رقاب
العمالقة ، فترفع الاخلاف فوق أبراج الأسلاف فيأخذون كل ما عند الأسلاف بدون مؤونة
إلا مؤونة القراءة ، ثم هم بعد ذلك تفتح لهم أيضاً على قدر قراءتهم رؤى جديدة .
وإن مجرد إلقاء نظرة
على تاريخ العلماء في العالم يبين لك أن القراءة الدائمة والتهام الكتب والتحايل
للحصول عليها وعلى الدخول إلى المكتبات … دأب العلماء . أنظر - مثلاً - كتاب كليلة
ودمنة وما وضع في مقدمته من الجهود التي بذلت في تحصيل هذا الكتاب . لقد كان
الكتاب في أول الأمر كالسر من أسرار الدولة والمهنة . والآن أيضاً توجد معلومات
عالمية محجوزة لا يفرج عنها إلا بعد سنوات تطول أو تقصر حسب رؤى أصحابها . إنها
بقية موقف الأقدمين من الكتاب .
ولكن العلم بدأ
ينتشر ويعم حين خرج من أن يكون سراً في أيدي الكهنة ، وحين كشفت صناعة الورق وبدأت
الطباعة وبدأ التوجه إلى محو الأمية . ولكن بعض المجتمعات كما تعجز عن محو الأمية
، تعجز أيضاً عن تقديم العلم أو تقديم العملاق ليجلس الأقزام على رقبته .
وإذا كان لي من
نصيحة أثيرة أقدامها للشباب الذي تعلق الأمة عليهم آمالها ، فهي أن يتطلعوا إلى مصادر للعلم غير المصادر التي كنا
نستقي منها ، لأن المصادر التي أخذنا منها العلم لم تعطنا إلا ما يشاهدون من
نتائجه المرئية الملموسة التي تمس جلودهم وضمائرهم ، وهذا ما عبر عنه محمد الطالبي
بأسلوب آخر حين قال : ( إن إخفاق السياسة في معالجة شؤون اليوم ، إنما هو إلى حد
بعيد إخفاق الجامعة قبل كل شيء )(1)
وهو يعني بكلامه
إخفاق مؤسسة تعليم القراءة ، المؤسسة التي ينبغي أن تعلمنا كيف نجلس على رقبة
العملاق ، المؤسسة التي تجعل صلتنا بالخبرات البشرية المتراكمة صلة صحيحة . إنه
ليس شيء مثل القراءة يعلم التجاوز ، ويصحح الخطأ ويدل على المراحل القادمة . إن
النهم في القراءة يبن لنا ماذا نقرأ وماذا نترك .. وإنه لما يخجلنا أشد الخجل أن
نحاول الكتابة في موضوع ما ، ونحن لم نطّلع على ما قيل في هذا الموضوع ، ونحن هنا
ربما نكون أمناء أمام أجيالنا القادمة ، حين لا نحملهم الآصار والأغلال التي
نحملها ، ونكون صرحاء أمامهم وأمناء على عرض الحقيقة بألا نكتمهم الحق ليتدبروا
أمرهم وليخرجوا من القمقم الذي نعيش فيه .
ودراسة سير العلماء
ترشد إلى أنهم كانوا قراء نهمين ، واسم
كتاب المسلمين القرآن من القراءة ، وقرّاؤه هم الذين زينوا القرآن بفعالهم
، والتفكير بجمع القرآن إنما ظهر حين استحرَّ القتل بالقراء في حروب الردة .
والجاحظ له مقام في
الحضارة الإسلامية يتألق نجمه على مر الزمن ، وقد كانت وفاته تحت ركام الكتب التي
تهدمت عليه ، إنه شهيد الكتاب والقراءة . لقد كان قارئاً بمستوى حضاري إنساني
عالمي ، ولكتبه طعم خاص وذوق معين وذلك لعالميته في القراءة ولإنسانيته في الثقافة
.. إنه يتناول الأمور برحابة صدر بعيداً عن الكزازة ، ويرجع ذلك إلى أن الجاحظ كان
يتذوق مع آيات الكتاب آيات الافاق والأنفس . ومن هنا قال ابن العميد عن كتبه : (إن
كتب الجاحظ تعلم العقل أولاً والأدب ثانياً) . وهو وإن كان إماماً في الأدب إلا
أنه أيضاً صاحب مذهب في العقيدة .
والإمام الغزالي هجر
الأستاذية ورئاسة العلم إلى التفرغ للتفكير ودراسة علوم عصره ، حتى قال عن نفسه :
إنه تفهم الفلسفة حتى صارت عليه أسهل من شرب الماء ، وكشفت مقاصد الفلاسفة وأظهرها
ووضحها أكثر من أهلها .
والإمام البخاري كان
يقوم في الليلة الواحدة أكثر من أربع عشرة مرة ليوقد السراج وليتأكد من حديث شريف
.
وإلى يومنا هذا لن
تجد إنساناً ذا وزن إلا ووجدت وراءه نهماً في القراءة . والشيخ بدر الدين الدمشقي
حبس نفسه تسع سنوات في المكتبة ، وكثير من علماء المسلمين وغير المسلمين كانوا
شديدي النهم للقراءة .
إن النهم في القراءة
والبروز في العلم مجال دراسة مهمة لكشف الأسباب والنتائج ومساعدة الناس على التوجه
بوعي إلى الدراسة والقراءة ليتبين لهم أن الإنسان بالقراءة ينال كرم الله وكرامته
.
(1) انظر مجلة العربي
حزيران 1985 ، كتاب الشهر .
(1) مجلة عالم الفكر ،
المجلد الخامس ، العدد الأول 1974 .
0 التعليقات:
إرسال تعليق