الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ،
وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه ، وبعد :
فمما لا شك فيه
أن الإسلام دينٌ معجزٌ كله ، فكتاب الله العظيم معجزٌ في سوره وآياته ، و رسوله
الكريم e معجزٌ في قوله وعمله ، و سُنته
الطاهرة معجزةٌ في لفظها ومعناها . وفي هذه العُجالة طوافٌ سريعٌ ببعض الجوانب
الإعجازية -التي أشار إليها الهدي النبوي المبارك -ذات العلاقة بموضوع الغضب
كخُلقٍ سلوكي مذموم جاء النهي عنه في أكثر من موضع من كتاب الله العظيم وسنة رسوله
الكريم عليه أفضل الصلاة و التسليم ؛ نظراً لما يترتب عليه من عظيم الخطر ، وكبير
الضرر . فعن أبي هريرة t أن رجلاً قال للنبي e :
أوصني ، قال : " لا تغضب "
، فردَّد مراراً ، قال : " لا تغضب " ( البخاري ، الحديث رقم
6116 ، ص 1066 ) .
وهنا نرى أن النبي e
وهو المعلم الأول ، والمربي الأعظم للأمة قد أوصى من طَلَبَ منه الوصية بعدم الغضب
، ثم كرر النهي مراراً .
فما هو الغضب ؟ وما هي مضاره ؟ وما علاجه وفق
منهج التربية النبوية التي جاء بها معلم الناس الخير ليكون لنا في ذلك منهج نهتدي
به ، وسبيل نتبعه ؟
تعريف الغضب :
يُعرَّف الغضب بأنه " ثورانٌ في النفس
يحملها على الرغبة في البطش و الانتقام " ( 1 ) . وقد يُعرَّف
بأنه " حالةٌ نفسيةٌ انفعالية تُصيب الإنسان "( 2 ) . وقيل فيه :
" إن الغضب غريزي في الإنسان فلا يُذم و لا يمدح إلا من جهة آثاره ؛ فمن غضب
وكظم غضبه وغيظه مُدح ، ومن غضب فثار وتصرف تصرفاً شائناً نتيجة الغضب كان مذموماً
بقدر ما وقع منه من تصرف "(3).
والمعنى أن الغضب طبعٌ بشريٌ فطريٌ يؤدي
بصاحبه إلى الثوران والانفعال ، وعدم القدرة على التحكم في أقواله وأفعاله غالباً
.
مضار الغضب :
للغضب كثيرٌ من المضار العظيمة التي
تمتد لتشمل جميع جوانب الحياة الفردية ،
والاجتماعية ، والجسمية ، والنفسية ، والفكرية والتي تؤكد جميعها أن الغضب
مفتاح الشرور لأنه يجمع الشر كله كما أشار إلى ذلك أحد عُلماء السلف بقوله :
" إن الغضب جماع الشر ، وإن التحرُّز ( التوقي ) منه جماع الخير " ( 4 ) .
فمن مضاره الفردية أنه يُفقد الإنسان
صوابه ، ويسلبه عقله ، ويدفعه إلى السب ، والشتم ، والسخرية ، والتلفظ بالألفاظ
البذيئة وغير المؤدبة التي قد تُسبب له الحسرة والندامة فيما بعد ، وقد تُسقطه من
أعين الناس ؛ إضافةً إلى ما قد يقوم به الإنسان حين غضبه من التصرفات الطائشة
البعيدة عن الحكمة ، والمُجانبة للصواب . وهو ما يُشير إليه أحد كبار
الكُتاب بقوله : " الإنسان مخلوقٌ متميز ، فيه شيء من الملائكة ، و شيءٌ من
الشياطين ، و شيءٌ من البهائم والوحوش ؛ فإذا عصف به الغضب ، أوتر أعصابه ، وألهب
دمه ، وشد عضلاته ، فلم يعد له أُمنيةً إلا أن يتمكن من خصمه فيعضه بأسنانه ، و يُنشب
فيه أظفاره ، ويُطبق على عنقه بأصابعه ، فيخنقه خنقاً ، ثم يدعسه دعساً ، غلبت
عليه في هذه الحال الصفة الوحشية ، فلم يبق بينه وبين النمر والفهد كبير فرق
" (
5 )
.
ومن مضار الغضب الاجتماعية:
أنه " يوَّلد الحقد في القلوب ، وإضمار
السوء للناس ، وهذا ربما أدى إلى إيذاء المسلمين وهجرهم ، ومزيد الشماتة بهم عند
المصيبة ، وهكذا تثور العداوة والبغضاء بين الأصدقاء ، وتنقطع الصلة بين الأقرباء
، فتفسد الحياة وتنهار المجتمعات " ( 6 ) .
أما مضاره
الجسمية و النفسية فكثيرةٌ جداً حيث " ثبت علمياً أن الغضب كصورةٍ من صور
الانفعال النفسي يؤثر على قلب الشخص الذي يغضب تأثيراً يُماثل تمامًا تأثير العدْو
أو الجري في إجهاده للقلب لا يستمر طويلاً ؛ لأن المرء يُمكن أن يتوقف عن الجري إن
هو أراد ذلك " ( 7 ) .
كما أشارت بعض
الدراسات إلى أن للغضب العديد من المضار الجسمية على صحة وسلامة الإنسان التي منها
التعرض لارتفاع ضغط الدم ، واحتمال الإصابة بالأزمات القلبية نتيجة التوتر الشديد
الذي يُصاب به الإنسان الغاضب الذي يتعرض " لتغير لونه ، وطفح دمه ، وانتفاخ
أوداجه ، وارتعاد أطرافه ، واضطراب حركته ، وتلجلج كلامه " ( 8 ) .
وليس هذا فحسب
؛ فهناك بعض المضار الأُخرى التي ربما أودت بحياة الإنسان حيث يمكن أن تؤدي "
شدة الغضب والانفعال إلى سرعة خفقان القلب أو انفجار شرايين المخ ، أو الإصابة
بالجلطة القلبية إذا كان الغاضب يشكو من ضعفٍ في القلب " ( 9 ) .
وللغضب
تأثيراتٌ سيئة على الجانب الفكري عند الإنسان إذ إن " الانفعال الشديد
يُعطل التفكير ، ويُصبح الإنسان غير قادرٍ على التفكير السليم أو إصدار القرارات
السليمة ، وبذلك يفقد الإنسان أهم وظائفه التي يتميز بها وهي الاتزان العقلي
" (
10 )
.
وهذا معناه أن
الإنسان الغاضب غير قادرٍ - في الغالب - على ضبط نفسه ، والتحكّم في تصرفاته
نتيجةً لقوة غضبه ، وشدة انفعاله ، التي تحول دون ضبطه لنفسه والتحكم في تصرفاته ،
وتدعوه في الغالب إلى المواجهة أو الانتقام أو نحو ذلك من الأقوال أو الأفعال .
الهامش
1
) مصطفى البـغا و مـحي الدين مستو . ( 1410هـ ) . الوافي في شرح
الأربعين النووية ، ط ( 7 ) ، المدينة المنورة : مكتبة دار التراث ، ص ( 110 )
.
2
) بدر عبد الرازق الماص . ( 1418هـ ) . أخلاق المسلم وآدابه ،
الكويت : مكتبة الفلاح ، ص ( 54 ) .
3
) حسن أيوب . ( د . ت ) . السلوك الاجتماعي في الإسلام ، لبنان : دار
الندوة الجديدة ، ص ( 78 ) .
4
) عبد الرحمن بن رجب الحنبلي . ( 1393هـ ) . جامع العلوم والحكم ، ط ( 4 )
، القاهرة : مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، ص ( 135 ) .
5
) علي الطنـطاوي . ( 1412هـ ) . تعريف موجـز بدين الإسلام ، جدة : دار
المنارة ، ص ( 17 ) .
6 ) مصطفى البغا و محي
الدين مستو ، مرجع سابق ، ص ( 113 ) .
7
) محمد كامل عبد الصمد . ( 1417هـ ) . الإعجـاز العلمي في الإسلام ( السُّنة
النبوية ) . ط ( 4 ) ، القاهرة : الدار المصرية اللبنانية ، ص ( 31 ) .
8 ) مصطفى البغا و محي
الدين مستو ، مرجع سابق ، ص ( 113 ) .
9
) عفيف عبد الفتاح طبَّارة . ( 1986م ) . الحـكمة النبويـة . ط ( 2 ) ،
بيروت : دار العلم للملايين ، ص ( 99 ) .
10 ) بدر عبد الرازق
الماص ، مرجع سابق ، ص ( 56 ) .
ويستكمل في المرة القادمة إن شاء
الله
[i] ) من بحث بعنوان(لا تغضب) للدكتور/صالح بن علي أبوعراد- أستاذ التربية
الإسلامية، ومدير مركز البحوث بكلية المعلمين-أبها
0 التعليقات:
إرسال تعليق