بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد،
يعتبر موضوع الذكاء أو
القدرات العقلية للطفل موضوع على درجة عالية من الحساسية بالنسبة للآباء والأمهات،
والذي قد لا يعلمه كثير من الآباء والأمهات أن الذكاء أو العبقرية وإن كان
يعتمد على جزء من الموهبة أو كان بعضه فطرياً، إلا أن جزءاً منه أيضاً مكتسب من
ظروف البيئة المحيطة بالطفل، ويعتمد على اهتمام الوالدين، وطريقة تربيتهما الطفل،
مع أن العلم الحديث يرشدنا إلى أن
الذكاء ليس نوعاً واحداً، وإنما هو أنواع مختلفة ، فهناك أنواع مختلفة من الذكاء، على
سبيل المثال، هناك الذكاء اللفظي، والذكاء الاجتماعي ، والذكاء البصري، والذكاء المنطقي
، والذكاء التاملي، والذكاء الحدسي..وسوف نتعرض لبعضها لاحقاً.
وينبغي أولاً قبل أن نتحدث عن ذكاء الطفل أن نناقش مسألة مهمة جداً في هذا
الخصوص، ألا وهي مسألة دور الوراثة في الذكاء.
هل
الذكاء وراثي أم مكتسب؟[1]
الحقيقة أن هذا الموضوع من الأهمية بمكان
بالنسبة للباحثين ولكل مهتم بمجال الطفولة، وللوالدين بصفة خاصة، ولهذا وجدنا آلاف
المقالات كتبت، ولا زالت تكتب حتى الآن حول هذا الموضوع، كما وأن العديد من
الأبحاث نشرت لتخدم نفس الموضوع،
وقد تباينت الأقوال، واختلفت الرؤى، حتى شذ البعض شذوذاً واضحاً في الرأي حول هذا الموضوع، فاتهم شعوبا ًبعينها بالتخلف والغباء، ونعت شعوباً أخرى بالفطنة والذكاء، وكأن الله تعالى قد اصطفى شعوباً فمنحها الذكاء، وغضب على أخرى فمنحها الغباء.
وقد تباينت الأقوال، واختلفت الرؤى، حتى شذ البعض شذوذاً واضحاً في الرأي حول هذا الموضوع، فاتهم شعوبا ًبعينها بالتخلف والغباء، ونعت شعوباً أخرى بالفطنة والذكاء، وكأن الله تعالى قد اصطفى شعوباً فمنحها الذكاء، وغضب على أخرى فمنحها الغباء.
وهذا الرأي الذي يتمتع بالعنصرية الواضحة، قد
نال حظاً كما نالت العنصرية حظاً كذلك من قبل، ولا تزال عند البعض، فجاءت نتيجة
الأبحاث عند هؤلاء عوراء لا ترى ولا تبصر إلا بعين واحدة،
تلك هي عين الإنسان الأبيض، لتبرهن على أن ذلك الإنسان هو الذي يتمتع بالذكاء الفطري، وأن غيره إنما هم أغبياء (لا يستحقون العيش أو الحياة) لأنهم لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل من الذكاء، وأنهم أغبياء لأن جنسهم هكذا غبي.
تلك هي عين الإنسان الأبيض، لتبرهن على أن ذلك الإنسان هو الذي يتمتع بالذكاء الفطري، وأن غيره إنما هم أغبياء (لا يستحقون العيش أو الحياة) لأنهم لا يتمتعون إلا بقدر ضئيل من الذكاء، وأنهم أغبياء لأن جنسهم هكذا غبي.
ومن أسف أن بعض تلك الآراء وجدت صدى لها
عندنا، من أولئك الذين ينقلون عن الغرب كل شيء من غير تفكير ولا تعقل و(بحسن نية)،
وقد صدق الفيلسوف الذي قال: $إن الأرقام لا تكذب
ولكن واضعي الأرقام هم الذين يكذبون.
إن الوثوق المطلق في كل ما يأتينا من الغرب،
أمر مرفوض، كالتشكك المطلق سواء بسواء، فليس كل ما يأتينا خير، وليس كله شر، لكن
العاقل من يختبر، ويدقق، ويقارن، وينتقد، ويبصر بالعينين معاً، ولا يترك عينه تخدع
بالبريق الزائف، والسراب الخادع.
نعود فنقول أن الذكاء لا
يعتمد على عنصر الوراثة فقط، وإن كان هذا العنصر يؤثر من غير شك فيه تأثيراً
واضحاً، لكن هناك عامل هام جداً وهو عامل البيئة، وهو من أهم العوامل شديدة
التأثير فيه.
"
إن أصحاب نظرية الذكاء الفطري الذين يعيشون السرعة الذهنية يدعون أن 80-90% من الذكاء يحدد
وراثياً ويعتمدون بذلك على الدراسات الكثيرة التي تمت على التوائم المتشابهة التي
ترعرعت في ظروف بيئية مختلفة ومع هذا أبقيا متماثلين بالذكاء.
على أن الدراسات التي فضحت الإحصائيات التي قامت على هذه الأسس حديثاً قد
وجدت أن
للبيئة تأثيراً أكبر من تأثير الوراثة أحياناً بل إن بعض هذه الدراسات الحديثة
التي أجريت في إنكلترا أثبتت أن الأطفال البيض مثلاً يحصلون على درجات أقل من
السود في فحوصات الذكاء المختلفة بل إن دراسة أخرى أظهرت عكس المتوقع أن للبنات
تفوقاً على الأولاد في درجات الفحوص.
ومن الغرابة أن بعض
الدراسات الأمريكية أظهرت أن ذكاء السود كما تحدده مقاييس الذكاء يقل كلما كان في
أجدادهم عرق أبيض"([2]).
والحقيقة أن المسألة ليست مسألة سود أو بيض،
إنما المسألة تكمن في البيئة وطريقة التربية، ونوع الرعاية والتعليم الذي يتلقاه
كل منهما في الصغر، ومن ثم تتكون شخصيته تبعاً لتلك التربية.
ولقد"
قامت أحدى الباحثات ( ساندرا سكار ) وهي تعمل في جامعة مينيسوتا بدراسة نتائج
اختبارات معامل الذكاء ( lQ )
التي أجريت على أطفال سود تم تبنيهم في بيوت بيض، فوجدت أن درجات السود تقل في
المتوسط بخمس عشرة نقطة عن درجات البيض في اختبارات معامل الذكاء الأكثر شيوعاً.
وهي نتيجة أدت لتوجيه أفكار العديد من العلماء
نحو اعتبار أن السود منحطون فكرياً، على أن السيدة سكار قد وجدت أن الأطفال السود
الذين نشأوا في بيوت بيض يكتسبون ما متوسطه ست عشر نقطة أكثر من السود الذين يبقون
في بيوت سود.
وفوق ذلك فكلما كان الطفل أو الطفلة أصغر عند
التبني زاد الفارق في معامل الذكاء، فالتغيرات القصوى البيئية لها تأثير أساسي على
درجات الأطفال في الاختبار وهو ما يدل على تأثير التربية في أي مما يقيسه الاختبار.
وأن هذه النتائج لا تعني أن الوراثة تلعب دوراً
تافهاً في الذكاء لأن سكار وجدت أيضاً في داخل كل عائلة، تكون معاملات الذكاء عند
الأطفال الأقرباء بالدم أكثر تقارباً فيما بينهم من معاملات الذكاء بين الأطفال
غير الأقرباء، فالضبط الدقيق الذي تقوم به بيئة العائلة لا يستطيع أن يحجب
الاتجاهات العامة التي تحكمها الوراثة.
وهكذا أستنتج العلماء ( أن الجينات تلعب دوراً
في تحديد معامل الذكاء حتى ولو كنا لا نعرف بالضبط ما الذي تقيسه اختبارات معامل
الذكاء)"([3]).
إذن للبيئة والتربية الدور الأهم في الذكاء،
لدرجة أن العوامل البيئية السيئة جداً قد تؤدي إلى التخلف العقلي كما يؤكد ذلك
د/محمود أبو العزائم - مستشار الطب النفسي- حيث يرى:
" أن فترة الحمل وأوائل الطفولة واعتمادها الكلى على عناية الأم – والآخرين –
تجعل من دماغ الطفل الخام عرضة لعوامل خارجية متعددة وحيوية تؤثر بدرجة كبيرة على
مدى تطوره، والكشف عن قابليته الذهنية الموروثة.
فكما أن الذكاء يورث بصفات متعددة فإنه يعتمد على الوسط المحيط لاستجلاء
واستغلال تلك الصفات أو إخمادها. فالذكاء إذن محصلة تفاعل الوراثة مع المحيط، وقد
يصعب تحديد نسبة كل منهما.
إلا أن
الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن الطبيب النفسي هي أن العوامل المحيطة السيئة قد
تؤدى في بعض الأحيان إلى التخلف العقلي"([4]).
ويمكننا تلخيصا ما سبق في عدة نقاط*:
· "للبيئة الطبيعية والمادية التي يحيا فيها
الطفل دور في تحديد ذكائه وقابلياته، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر أن
نوع الغذاء الذي يتلقاه الطفل يلعب دوراً في نسبة ذكائه، كما أثبتت أبحاث كثيرة
أجريت على الأطفال المحرومين من الغذاء الكافي.
· للبيئة الاجتماعية التي
يحيا فيها الطفل دور أكبر في نمو ذكائه وتطور شخصيته، ولا حاجة هاهنا إلى أن نذكر
بالأبحاث الكثيرة التي قام بها علماء الانثروبولوجيا والاجتماع، والتي أوضحت دور الثقافة
الخاصة بكل مجتمع (بالمعنى الذي يحدده الانثروبولوجيون حيث يعنون بالثقافة أنماط
السلوك السائد في مجتمع دون آخر) في التكوين النفسي لذلك المجتمع وليس من الغلو أن
نقول – انطلاقا من هذه الدراسات – أن لكل مجتمع نموذجه الإنساني الخاص بهً.
· الدراسات التي أجريت
على الأطفال في دور الأيتام، وعلى التوائم، أكدت أثر البيئة في التكوين العقلي
للطفل، ولا مجال هنا للإسهاب في هذه الدراسات، وحسبنا أن نذكر أنها كشفت عن (الدور
الفعال) الذي تلعبه البيئة المنزلية في نمو ذكاء الطفل وقابلياته، وبينت أن غياب
هذا الدور الفعال- كما في دور الأيتام وفي الأسر ذات الأولاد
الكثيرين- يؤدي إلى هبوط واضح في نسبة الذكاء نفسها.
وحسبنا أن نذكر كذلك أن الدراسات التي أجريت على
التوائم الحقيقيين (الذين ينقسمون من بيضة واحدة) بينت أن نسبة ذكاء كل من
التوأمين تختلف إذا ما اختلفت البيئة التي يحيا فيها كلا منهما (وقد يصل هذا
الاختلاف إلى حدود 24 نقطة في سلم الذكاء)
· الدراسات التي قام بها
بعض الباحثين حول مشاهيرالرجال والعباقرة في العالم عبر التاريخ (مثل الدراسات
التي قامت بها كوكس Cox (وشملت السيرة الذاتية
لثلاثمائة عبقري) أكدت - بعد التحليل- الدور الذي لعبته البيئة المنزلية في تكوين هؤلاء العباقرة".
0 التعليقات:
إرسال تعليق