مضار أسلوب القسوة والعنف في التربية ( 1 )
يظن بعض الآباء أن الشدة والقسوة هما عماد التربية، وأن الطفل لن يتربى، ولن يلتزم بالخلق القويم إلا إذا أخذ بالشدة، إنهم يقولون أن هذه طريقة الآباء والأجداد، وأنهم تربوا هكذا، وأنه لا ينفع الدلع الذي يتبعه آباء هذه الأيام مع أولادهم...!
والحقيقة أننا نحن الآباء نريد أن نسيطر على أبنائنا، ولا نريد لهم أن يتصرفوا بحرية مسؤولة ومنضبطة، لأننا هكذا تم السيطرة علينا من قبل آبائنا، وهكذا تربينا، ومن ثم نريد أن نكرر نفس التجربة مع أبنائنا.......
وقد يكون السبب أننا لا نعرف غير هذه الطريقة في التربية، أو أن هذه الطريقة هي أسهل الطرق من وجهة نظرنا، فهي لا تحتاج أكثر من حنجرة قوية، وعصا غليظة-أو رفيعة مؤلمة-ووجه عابس، مكفهر..! وكل هذه الأمور من السهولة بمكان عند الكثيرين.
أما التفكير في طريقة تربوية في استيعاب مشاكل الأولاد، والبحث وراء الدوافع الحقيقية وراء بعض سلوكياتهم-والتي عادة ما تتسم بقدر من العناد، أو عدم الطاعة، أو حتى التمرد والعصيان- أمر يحتاج منا إلى بعض الجهد، والتعب، والنصب..
مضار اسخدام أسلوب الشدة والقسوة في التربية
ولو أننا علمنا الأضرار التي تسببها الشدة والقسوة في التعامل مع الأولاد، لما تساهلنا في استخدام مثل هذا الأسلوب في التربية، ومع أن الله تعالى أرشدنا في القرآن الكريم إلى استخدام اللين والرحمة في التعامل، حيث قال في كتابه العزيز:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } آل عمران159
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }الأعراف199
وتلك كانت نظرة المتقدمين والمتأخرين من علماء التربية، والاجتماع من العرب والمسلمين،
ومن غيرهم من العلماء الغربيين في العصر الحديث، يقول العلامة بن خلدون:
(إن إرهاف الحد مضر بالمتعلم لا سيما صغار الولد ، لأنه من سوء الملكة ، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر ،وضيق على النفس في انبساطتها..
وذهب بنشاطها ، ودعا إلى الكسل ، وحمل على الكذب والخبث ، والتظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهرعليه،
وعلمه المكر والخديعة لذلك ، وصارت له هذه عادة ، وفسدت لديه معاني الإنسانية من حيث الإجتماع والتمدن ، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله ، وصار عيالا على غيره في ذلك ،
بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل ، فانقبضت عن غايتها ، ومدي انسانيتها ، فارتكس وعاد في أسفل السافلين ، وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ، ونال منها العسف .
فينبغي للمتعلم في متعلمه ، وللوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب .
وقال أبو محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين :
لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا .
ومن كلام عمر رضي الله عنه : " من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله " حرصا على صون النفس من مذلة التأديب ، وعلما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلتحته
ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده محمد الأمين فقال:
" يا أحمران ، أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه ، وثمرة قلبه ، فصير يدك عليه مبسوطة ، وطاعته لك واجبة ، فكن بحيث وضعك أمير المؤمنين .....
أقرئه القرآن ، وعرفه الأخبار ، وروّه الأشعار ، وعلمه السنن ، وبصره بمواقع الكلام وبدئه ، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلو عليه ، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها .
من غير أن تحزنه فتميت ذهنه ، ولا تمعن في مسامحته فيستحلى الفراغ ويألفه ،
وهذا ما يؤكده ابن سينا في ( السياسة ) حيث يقول :
" إنه من الضروري البدء بتهذيب الطفل وتعويده ممدوح الخصال منذ الفطام ، وقبل أن ترسخ فيه العادات المذمومة ، التي يصعب إزالتها إذا تمكنت من نفس الطفل ، أما إذا اقتضت الضرورة الالتجاء إلى العقاب فإنه يجب مراعاة منتهى الحيطة والحذر.
فلا يؤخذ الوليد أولا بالعنف ، وإنما بالتلطف ثم تمزح الرغبة بالرهبة ، وتارة يستخدم العبوس ، أو ما يستدعيه التأنيب . وذلك وفق كل حالة خاصة ....ولكن الالتجاء إلى الضرب لا يكون إلابعد التهديد والوعيد وتوسط الشفعاء لإحداث الأثر المطلوب في نفس الطفل "
ولقد تبين من الدراسات والأبحاث التي أعدت حديثاً (أن الأطفال الذين تم معاقبتهم بقسوة في منازلهم كانوا أكثر احتمالاً أن يكونوا منحرفين، وضد المجتمع في مرحلة المراهقة، وأكثر عدوانية مع الأطفال الآخرين والمعلمين.
فالطفل عندما يتعامل بالقوة الجسمية، فإنه يتعلم، ليس فقط أن العدوان طريقة مؤثرة وفعالة للوالدين للحصول على ما يريدونه، وإنما في نفس الوقت يتعلم كيف يستخدم العنف والعدوان لأغراضه الخاصة في مواقف أخرى.
كذلك دلت الدراسات على أن القسوة في عقاب الأطفال على عدوانهم في المنزل، يرتبط ارتباطاً موجباً بمقدار ما يبديه الأطفال من عدوان في خيالاتهم وأوهامهم.
ومعنى هذا أن الأطفال الذين يشتد آبائهم في عقابهم، يزد عندهم العدوان في أفعالهم الوهمية بالدمى والعرائس وما إليها.
وأخيراً يمكن القول أن هناك صلة بين ما يلقاه الطفل في مرحلة تنشئته والدياً،
وللحديث بقية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق